responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير المؤلف : الرازي، فخر الدين    الجزء : 15  صفحة : 503
الْمُوجِبُ لِلْمَحَبَّةِ تَصَوُّرَ الْكَمَالَاتِ الْبَاقِيَةِ الْمُقَدَّسَةِ عَنِ التَّغَيُّرِ وَالزَّوَالِ، كَانَتْ تِلْكَ الْمَحَبَّةُ أَيْضًا بَاقِيَةً آمِنَةً مِنَ التَّغَيُّرِ، لِأَنَّ حَالَ الْمَعْلُولِ فِي الْبَقَاءِ وَالتَّبَدُّلِ تَبَعٌ لِحَالَةِ الْعِلَّةِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلُهُ تَعَالَى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزُّخْرُفِ: 67] .
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْعَرَبُ كَانُوا قَبْلَ مَقْدِمِ الرَّسُولِ طَالِبِينَ لِلْمَالِ وَالْجَاهِ وَالْمُفَاخَرَةِ، وَكَانَتْ مَحَبَّتُهُمْ مُعَلَّلَةً بِهَذِهِ الْعِلَّةِ، فَلَا جَرَمَ كَانَتْ تِلْكَ الْمَحَبَّةُ سَرِيعَةَ الزَّوَالِ، وَكَانُوا بِأَدْنَى سَبَبٍ يَقَعُونَ فِي الْحُرُوبِ وَالْفِتَنِ، فَلَمَّا جَاءَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّه تَعَالَى وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الدُّنْيَا وَالْإِقْبَالِ عَلَى الْآخِرَةِ، زَالَتِ الْخُصُومَةُ وَالْخُشُونَةُ عَنْهُمْ. وَعَادُوا إِخْوَانًا مُتَوَافِقِينَ، ثُمَّ بَعْدَ وَفَاتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا انْفَتَحَتْ عَلَيْهِمْ أَبْوَابُ الدُّنْيَا وَتَوَجَّهُوا إِلَى طَلَبِهَا عَادُوا إِلَى مُحَارَبَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَمُقَاتَلَةِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، فَهَذَا هُوَ السَّبَبُ الْحَقِيقِيُّ فِي هَذَا الْبَابِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ/ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أَيْ قَادِرٌ قَاهِرٌ، يُمْكِنُهُ التَّصَرُّفُ فِي الْقُلُوبِ. وَيُقَلِّبُهَا مِنَ الْعَدَاوَةِ إِلَى الصَّدَاقَةِ، وَمِنَ النَّفْرَةِ إِلَى الرَّغْبَةِ، حَكِيمٌ بِفِعْلِ مَا يَفْعَلُهُ عَلَى وَجْهِ الْإِحْكَامِ وَالْإِتْقَانِ. أَوْ مُطَابِقًا لِلْمَصْلَحَةِ وَالصَّوَابِ عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ فِي الجبر والقدر.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 64 الى 65]
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65)
[في قوله تعالى يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَعَدَهُ بِالنَّصْرِ عِنْدَ مُخَادَعَةِ الْأَعْدَاءِ. وَعَدَهُ بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُطْلَقًا عَلَى جَمِيعِ التَّقْدِيرَاتِ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يَلْزَمُ حُصُولُ التَّكْرَارِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى فِي الْآيَةِ الْأُولَى، إِنْ أَرَادُوا خِدَاعَكَ كَفَاكَ اللَّه أَمْرَهُمْ. وَالْمَعْنَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَامٌّ فِي كُلِّ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ بِالْبَيْدَاءِ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ قَبْلَ الْقِتَالِ وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْأَنْصَارُ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا، نَزَلَتْ فِي إِسْلَامِ عُمَرَ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَسْلَمَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ رَجُلًا وَسِتُّ نِسْوَةٍ، ثُمَّ أَسْلَمَ عُمَرُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ هَذِهِ الْآيَةُ مَكِّيَّةٌ، كُتِبَتْ فِي سُورَةٍ مَدَنِيَّةٍ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: التَّقْدِيرُ، اللَّه كَافِيكَ وَكَافِي أَتْبَاعِكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْكَافُ فِي حَسْبُكَ خفض و (من) فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ وَالْمَعْنَى: يَكْفِيكَ اللَّه وَيَكْفِي مَنِ اتَّبَعَكَ، قَالَ الشَّاعِرُ:
إِذَا كَانَتِ الْهَيْجَاءُ وَانْشَقَّتِ الْعَصَا ... فَحَسْبُكَ وَالضَّحَّاكَ سَيْفٌ مُهَنَّدُ
قَالَ وَلَيْسَ بِكَثِيرٍ مِنْ كَلَامِهِمْ أَنْ يَقُولُوا حَسْبُكَ وَأَخَاكَ، بَلِ الْمُعْتَادُ أَنْ يُقَالَ حَسْبُكَ وَحَسْبُ أَخِيكَ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى كَفَاكَ اللَّه وَكَفَاكَ أَتْبَاعُكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَهَذَا أَحْسَنُ الْوَجْهَيْنِ، أَيْ وَيُمْكِنُ أَنْ يُنْصَرَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ بِأَنَّ مَنْ كَانَ اللَّه نَاصِرَهُ امْتَنَعَ أَنْ يَزْدَادَ حَالُهُ أَوْ يَنْقُصَ بِسَبَبِ نُصْرَةِ غَيْرِ اللَّه، وَأَيْضًا إِسْنَادُ الْحُكْمِ إِلَى الْمَجْمُوعِ يُوهِمُ أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْ ذَلِكَ الْمَجْمُوعِ لَا يَكْفِي فِي حُصُولِ ذَلِكَ الْمُهِمِّ. وَتَعَالَى اللَّه عَنْهُ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْكُلَّ مِنَ اللَّه، إِلَّا أَنَّ/ مِنْ أَنْوَاعِ النُّصْرَةِ مَا لَا يَحْصُلُ بِنَاءً عَلَى الْأَسْبَابِ الْمَأْلُوفَةِ الْمُعْتَادَةِ، وَمِنْهَا مَا يَحْصُلُ بِنَاءً عَلَى الْأَسْبَابِ الْمَأْلُوفَةِ الْمُعْتَادَةِ. فَلِهَذَا الْفَرْقِ اعْتَبَرَ نُصْرَةَ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ يَكْفِيكَ بِنَصْرِهِ وَبِنَصْرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَيْسَ مِنَ الْوَاجِبِ أَنْ تَتَّكِلَ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا بِشَرْطِ أَنْ تُحَرِّضَ

اسم الکتاب : تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير المؤلف : الرازي، فخر الدين    الجزء : 15  صفحة : 503
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست